[مقطع من رواية "سفر الاختفاء" صدرت الشهر الماضي عن دار الجمل بيروت - بغداد وهي الرواية الثانية للكاتبة]
أشعر بغضب عليك! ذاكرتك المرصعة في رأسي فيها شروخ. هل أنا الذي لا أذكر كل ما قلته أنت لي؟ أم أنك قلت ما لم يستوعبه عقلي؟ كنت صغيراً عندما بدأت أسمع حكاياتك. ولما استنجدت بها، اكتشفت شروخها. بدأت أسألك أكثر فأكثر عن تلك الحكايات. اختلطت عليك الأمور، أو لعلها اختلطت عليّ أنا، كلما سألتك أكثر. وكيف لها ألّا تختلط؟ كنت متأكداً أن هناك مدينة أخرى، فوق هذه المدينة التي نعيشها. ترتديها. كنت متأكداً أن مدينتك التي تتحدثين عنها، والتي لها نفس الاسم، لا علاقة لها بمدينتي. تشبهها إلى حد الجنون؛ الأسماء والبيارات والروائح وسينما الحمراء والأعراس وعيد النبي روبين وشارع إسكندر عوض وساحة الساعة... والناس. أولئك الناس الذين أعرف كل مشاكلهم، وكيف تهجّروا من يافا. أعرف تفاصيل حياتهم المملة، وتلك الأكثر إثارة. ونكاتهم. كل هذا وأنا لم أر أيّاً منهم وأشك أنني سأرى.
يافاك تشبه يافاي، لكنها ليست مثلها. كأنها هي. مدينتان تتقمّصان بعضهما البعض. حفرت أنت اسماءك في مدينتي، فأجدني كالعائد من التاريخ. منهك يتجول في حياته كشبح. نعم، شبح أنا يعيش في مدينتك. وأنت أيضاً شبح يعيش في مدينتي. ونسمّي المدينتين يافا.
أنتِ كنتِ على عكس الناس! فالناس، لا يقوون على الحديث عن مصائبهم عندما تقع. وإن ”شقرقوا“ باب ذاكرتهم ليفتحوه قليلاً، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا بعد سنوات. لكنكِ فعلت العكس. ” انبرى لساني من الحكي. خلص يا تاتا لشو الحكي؟“ قلت لي آخر مرة رأيتك فيها عندما سألتك عن تفاصيل تهجيركم من المنشية إلى العجمي؟ وكيف عشت مع العائلة المجرية التي أتوا بها إلى بيتكم ليقتسموه معكم.
كنت تقولين إنك تمشين في الصباح فلا تعرفينه، لا هو ولا الشوارع وكأنها كلها هُجّرت مع الذين هُجّروا. حاولت عيناي الطفلتان آنذاك أن تتخيلا المنظر وأنت تصفينه. ”كأنه العتمة بلعتهم. كأنّه البحر أخدهم فدية.“ هكذا وصفت أيّامك ولم تقولي إن عدد السكان أصبح ثلاثة الآف بعدما كان يفوق مئة ألف. لا لم تقولي هذا. لكنك قلت إنك لم تتعرفي على مدينتك من بعدهم.
كنت تأكلين البرتقال بشراهة. أعتقدتُ أنك تحبينه لكني تفاجأت عندما قلت مرة، إنك لا تحبين البرتقال ولم تأكليه إلا بعد أن هجّروكم من المنشية إلى العجمي. وأحاطوا العجمي بأسلاك شائكة وأعلنوها منطقة عسكرية مغلقة. لم أفهم لماذا تأكلين البرتقال إذاً؟ إذا كنت لا تحبينه فلماذا كنت تأكلينه؟ لعلك كنت تنتقمين من أولئك الذين كانوا هناك، على الجهة الأخرى من الشاطيء، يتحسرون على برتقال يافا. كنت دائماً تشتكين أن شجر السرو على جانبي الطرقات أصبح بعد ”هديك السنة“ كبيراً بلا معنى! يقف هناك لا يفعل أي شيء غير تكنيس السماء من الغبار! تقولين ذلك ثم تضحكين وكأنك تعرفين ألا معنى لما تقولين، لكنك تصممين على أن الأشجار كبيرة بلا معنى! قلت أنك لم تحبي البرتقال عندما كنت صبية، بل أحببت زهره ورائحته لكن ”بعد ما طلعوا صار كل شي إله معنى تاني أو بدون معنى ... وصرت أحب أشوف الناس بتاكل البرتقان بس أنا بصراحة ولا مرة حبيت البرتقان ... أكلته بس ما حبيته أبداً...إففففف خلص يا تاتا تعبني الحكي خلينا نحكي بغير شي ... يووووه شو بتسأل كتير يا تاتا!“
قلت لي إنك كنت تمشين في الشوارع مع والدك وتضحكين بصوت عال، بعدما شالوا الأسلاك الشائكة التي أحاطو بها العجمي. كنت تمشين معه وتلقين التحية على الغرباء، لكي توهميه أن ما يقوله صحيح، وأن الناس جميعاً عادوا إلى يافا. قلتِ لي إن والدك خرّف ورأى الناس كلهم هناك. رأى الباص رقم ستة يمر بموعده ورأى شريكه زيكو في محل الموبيليا يعيد له مفتاح قفل المخازن التي وضعوا الموبيليا فيها. موبيليا. كنت تحبين هذه الكلمة وتفضلينها على كلمة أثاث. لولا أنني رأيت صورة لوالدك مع زيكو لقلت إن زيكوهذا لم يكن موجوداً أبداً، بل كان شخصية اخترعتموها أنتم. زيكو. أي اسم هذا؟ هل هذا لقبه؟ سألتك فقلت إنك لا تعرفين. زيكو كان شريك والدك، صاحب محلات أثاث في يافا. ”صادروا البشر، ما بدها اليهود يعني تصادر الأتات يا تاتا؟ شو هادا السؤال يعني إنه كيف بصادروا الأتات... وبعدين كم مرة حكينا أنه بلا من هل حكي... هو أبوي مات بحصرته من شوي...“ ”بهديك السنة“ خسر والدكِ كل الأثاث الذي كان يتاجر به.
عرفتِ أنتِ أنه خرّف عندما دق على باب غرفتك في صباح منخفض الحرارة وقال إن زيكو زاره بالليل وقال له إن بإمكانهم الذهاب وأخذ الأثاث من المخازن وإعادة فتح المحلات. سكتّ أنتِ عندما قال هذا. توقفتِ عن مجادلته عندما كان يصرخ بك أحيانا ويقول إنه يريد أن يعود إلى بيته. وعندما تقولين له إنه في البيت، يتهمك بالكذب. لم تفهمي في البداية ما الذي كان يحدث. لكنك أدركت أنه خّرف، دفعة واحدة. وأدركت أنه سيموت. أيضاً دفعة واحدة.
أخذتِه من يده ومشيت معه في صباحه الأخير. ”مشيت يا تاتا وحسّيت زي إلّي ماشية على المشنقة، كان اليهود يمكن يقتلونا. ما كان مسموح نطلع على كيفنا. وهو كان مصمّم إنه يطلع من العجمي. الله ستر، ما بدري كيف، بس الله ستر... طول الطريق وأنا أقرأ آية الكرسي...ومرعوبة“ أخذتِه من يده وحييت الغرباء وكأنهم من أهل المدينة وقلت إن الله استمع لدعائك في تلك اللحظة، فلم يوقفكم أحد ليسألكم عن تصاريح. وهز المارة رؤوسهم ليردوا على التحية التي كانت بلغة لا يفهمونها. كأن الجميع إتفق على أن يتركوه يودع مدينته. عندما عدتم قال لك إنه سيستحم وينام قليلاً. لكنك عرفت أن القليل لن يأتي بعد هذا النوم. هل عرف أنه سيموت فاستحم قبل موته؟ هل فعلتِ أنت مثله؟ ألهذا استحممتِ قبل الخروج من البيت ورفضتِ أن يأتي معك أحد، ولم تكوني قد خرجتِ لوحدك منذ أكثر من سنتين؟ هل أردتِ أن تموتي وحيدة أمام البحر؟...
***
هل تخدّر قلبي؟ ما معنى أن يتخدّر قلب شخص ما؟ وكيف؟ هل يتخدّر قلب الإنسان عندما يتوقف عن طرح الأسئلة. لعل قلبي ذبل. هل تخدر قلبهم هم؟ كيف لنا أن نمشي على نفس الطريق وننظر إلى نفس البحر لكننا نرى صورة مختلفة تماماً؟
...
بالأمس سجلنا مرور عشرين يوماً على ضرب غزة. هذا ما أردت أن أقوله لك ولكن لم أرغب أن أقوله من البداية. كانوا ينتشلون الجثث التي بدت كأنها دمى. هكذا يسحبونها من بين الحطام. يشدونها وهي ترفض الخروج من بين الأنقاض.كانت مغطاة بالغبار والدم.كانت تنتابني رغبة قوية لأن أذهب وأمسح عنها الغبار. ربما لأنني أردت أن أرى الوجوه بوضوح. أقول ضربوا غزة وليس أعلنوا الحرب عليها، لأن وقع كلمة حرب، يبدو خفيفاً على أذنيّ. حرب، كانت كلمة كبيرة عندما كنت صغيراً ولكن سرعان ما كبرتُ وصغرتْ هي. كثرت الحروب من حولنا وتعوّدنا عليها. الضرب لم أعرفه لذلك يبدو لي دائماً شديداً وصعباً. كأن في فعل الضرب تكرار عبثي. عندما كنا صغاراً كنا نلعب لعبة ”تقع الحرب في .... “ كنا نرسم دائرة ونقسمها بعدد المشتركين. ونسمي كل قسم باسم بلد نختاره. وغالباً ما نختار أسماء كلبنان وفلسطين والعراق ومصر. لم يختر أحداً السعودية أو المغرب مثلاً! فكان يمسك أحدنا غصناً ويقول ” تقع الحرب فييييييي ... لبنان.“ ويرمي الغصن بإتجاه بعيد عن الشخص الذي سمى نفسه باسم ذلك البلد، وعلى الذي اختير اسمه أن يمسك بالجميع. كنت أكره هذه اللعبة. ليس لأن فيها حرب، بل لأنني لم أحب أن ألحق بأحد وأن أمسك به. هل كنت تلعبينها أنت كذلك؟ لا أذكر أن أحداً علمني كيف ألعبها، هي أو أي لعبة أخرى. كأن هذه الألعاب كبرت معي. أي الألعاب كنت تلعبين وأنت صغيرة؟ أتدرين أنني لا أذكر أنك حدثتنا عن طفولتك باستثناء بعض الجمل العابرة. لا أذكر أنني سمعتك تتحدثين عن طفولتك. لماذا لم أنتبه لذلك من قبل؟ ألم تكوني طفلة يوماً؟ كنت شابة وإمرأة وزوجة وأم وجدة وخياطة. . . لكن لم تكوني أبداً طفلة.
دعينا نترك اللعب والطفولة ونعود إلى الضرب. كما قلت لك. ضربوا غزة. ضربوههم بالطائرات بالقنابل... لا أدري بماذا أيضاً! قلبي تخدر. لعل قلبي ذبل وقلب الذين ضربوهم هو الذي تخدر. بحثتُ عنك بالأمس. خرجتُ إلى الشوارع، إلى البحر، إلى تلك البقعة التي وجدتك فيها. ذهبت إلى جامع البحر ووقفتُ هناك. وقفتُ طويلاً لعل شيئاً ما يمر ليوحي أن هناك حياة بعد الموت. لكنك لم تكوني هناك. كيف أقول لك ما أريد أن أقوله؟ أبي أبي... غادر هو الآخر. نعم. قبل ثلاثة أيام غادر. إتصلت بي أمي في الصباح وهي تبكي وقالت ”لازم تجي... أبوك تعبان.“
أخذتُ سيارة أجرة وذهبت إلى البيت. كان الدكتور هناك، عبد كتير الحكي، كما كنت تسمينه...أبوي راح يا تاتا أبوي مات... مات قبل ما اتعرف عليه منيح...
والحقيقة هي أنه... انتحر.
لكننا لم نقل ذلك لأحد. لأن الانتحار عيب.
لم نقل ذلك لأحد، لأن الانتحار عيب.
بدا موته عادياً. بعد مرور كل هذه الأيام على ضرب غزة!
بحثتُ عنك ولم أجدك...أردت أن أقول لك إنهم ضربوا غزة وإن أبي انتحر.
ذهبتُ إلى ناحية جامع البحر ولم أجدك، لم أجدك. انتحر أبي وضربوا غزة لليوم العشرين.
وكان انتحار أبي تافهاً بعد كل هذه الأيام من ضرب غزة...